15 عاما من العزلة..!

تجاعيد غزت وجهها الخمسينيَ، ونظرات غاضبه استشعرتها من خلف نظارتها الطبيّة، قصر قامتها، وقدمها الواحدة، تفاصيل اثارت حيرتي، على يمينها كتاب يتحدث عن حقوق المرأة في الاسلام، وقبل أن تبدأ بالكلام، جاء صوت يصيح من بعيد " ابعدوا عنها .. عندها شيزوفرينيا " .. !
من بين ربوع الشام الصغرى، تسكن السيدة معالي أحمد مع والدها وعمتها في بيت مهترئ صغير، كل واحد منهم في غرفة منفصلة، لا يخاطب لسانهم الاخر منذ اكثر من 15 عاما، والسبب هو الفقر والمرض.
تزوجت معالي منذ فترة طويلة رغم رفض والدها لذلك، وسكنت في مدينة القدس، كانت تعمل مصففة شعر، و منّ الله عليها بابنتيها " سحر وملك "، بعد عناء طويل مع حل مشاكل الانجاب، لكن مرض السكريّ فتّك يديها، وجعلها غير قادرة على العمل اكثر.
تقول معالي " كان زوجي شخص متعفن الوجدان، تزوّج علي بامرأة اخرى بعد اصابتي بهذا المرض، حيث أني كنت مصدر رزق البيت بعملي وهو يجلس مكسور الحيلة، لا يرغب بالعمل ولا تحمل المسؤولية، كان عآلة على جدران المنزل".
عادت معالي مكسورة الجناح الى بيت والدها الثمانينيّ في البلدة القديمة بعد زواج دام 20 عاما، دون مال ولا سند ولا اولاد، بعد أن منعها زوجها من رؤية بناتها، اما صدمتها الكبرى، كانت تخلّي والدها عنها بسبب الفقر المدقع الذي يعيشه هو واخته العاجزة، لكن معالي اصرّت على المكوث رغما عنهم، ومن هنا بدأت حكاية الصمت الطويلة بينهم الى الان.
" انا لحد الان على ذمته "، عبارة قالتها معالي وهي تعتصر قلبها الما على حظّها السيء، بعد أن افصحت عن سرها الذي ما زال يقبع تحت جدران الخوف، فقد رفض زوجها التسريح باحسان، ولم تستطع خلعه، فبقيت الى الان على ذمته دون طلاق او معرفة مصيرها منذ 15 عاما.
تأزم وضع معالي اكثر مع مرض السكري، لم تعد قادرة على شراء الدواء، وتعففها عن الطلب من الناس، جعلها اسيرة عصاها البلاستيكية المهترئه، بعد ان تم بتر قدمها اليمنى كاملة حتى ركبتها بسبب تفشي المرض في كل جزء من جسدها، وبكونها لاجئة من مدينة عكا، وهويتها الزرقاء، انعمت اعين الشؤون الاجتماعية عنهم، فكل ما يحتاجونه قوت يومهم الذي بات بالنسبة اليهم صراع بين الموت والحياة.
وخلال حديثي معها، قاطعتني عمتها بصوتها القادم من غرفتها " سيبك منها، عندها انفصام بالشخصية "، بات الغضب يخيّم على تفاصيل وجه معالي، و اتجهت بنظرها الى كتب تضعها بجانبها دائما تتحدث عن حقوق المرأة والقوانين التي تنصفها، وعادت تقلّب في صفحات هذه الكتب التي لم ترَ لها تطبيقا في حياتها العملية.
تتابع معالي " اتهموني بانفصام الشخصية، كي يكذّبوا كل اقوالي، اصبحت أُعرف في هذه المنطقة بالمجنونة التي تختلق الاكاذيب لتشحد مصاريف علاجها وطعامها، لكنّي بريئة منهم".
اما عمتها السبعينية، تنام في غرفة معرّاه من اساسيات الحياة الكريمة، مستلقية على سريرها، وتحاول رفع نفسها لكن دون جدوى، تقول " نحن هنا ننتظر الايادي السخية كي تعطف علينا، أكاد افقد نظري لحاجتي الملحّة لعملية تنقذني من المياه البيضاء، لكن تكلفتها مرتفعة جدا، ونحن بالكاد نعيش من الجوع ".
والد معالي يجلس في غرفته وكلّما ذكر اسم ابنته امامه، يتمتم بدعواته عليها، وكأنها عدوته التي افقدته الحياة، يعقّب بقوله " لم اوافق من البداية على زواجها، ولكنها عصت امري والان تجلس في بيتي وتأكل من طعامي الذي لا يكفينا، انا غاضب عليها حتى الممات، ولن اخاطبها ما تبقَ فيًّ من نفس ".
لطالما نؤمن بأن الظفر لا يخرج من اللحم، لكن لكل قاعدة شواذ، فحين يكون الانتهاك من الزوج يبقى مقبولا لكن انتهاك الأب والأم والأولاد أشد وقعا على النفس، همّ الفقر وهمّ الصحة المعدومة، والمستقبل المتغبّش تميت في القلب تفاصيل كثيرة، معالي هي حالة مصغرة عن عشرات الحالات التي تعاني من الظلم، لكن لا احد يقف معهم ويعيد لهم حقهم في الحياة.
No comments:
Post a Comment